فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل}
كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسمًا ولا ينالون من الطعام إلاّ قوتًا تعظيمًا لحجهم فنزلت، وقيل: كان أحدهم يطوف عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلًا ليتعرُّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يُتجمل به من ثياب وغيرها كقوله: {وازّينت} أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج، وقال طاووس الشملة من الزّينة، وقال مجاهد: ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة.
وقيل ما يستر العورة في الطّواف، وفي صحيح مسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلاّ أن تعطيهم الخمس ثيابًا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء وفي غير مسلم: من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوبًا طاف عريانًا أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء.
وقال بعضهم:
كفى حزنًا كرى عليه كأنه ** لقي بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحلّه

فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا} أذّن مؤذّن الرسول ألاّ لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وكان النداء بمكة سنة تسع، وقال عطاء وأبو روق: تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل، وقيل: التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكره الماوردي، وقيل: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه، وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين، وقيل: ليس النّعال في الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة، وقال ابن عطيّة: وما أحسبه يصحّ، وقال أيضًا: الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخل فيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء {وعند كل مسجد} يريد عند كل موضع سجود، فهو إشارة إلى الصّلوات وستر العورة فيها هو مهم الأمر ويدخل في الصّلاة مواطن الخير كلها ومع ستر العورة ما ذكرنا من الطيب للجمعة انتهى.
وقال الزمخشري: {خذوا زينتكم} أي ريشكم ولباس زينتكم {عند كل مسجد} كلما صلّيتم وكانوا يطوفون عراة انتهى، والذي يظهر أنّ الزّينة هو ما يتجمل به ويتزين عند الصلاة ولا يدخل فيه ما يستر العورة لأنّ ذلك مأمور به مطلقًا ولا يختصّ بأن يكون ذلك عند كلّ مسجد، ولفظة {كلّ مسجد} تأتي أن يكون أيضًا ما يستر العورة في الطّواف لعمومه والطّواف إنما هو الخاص وهو المسجد الحرام وليس بظاهر حمل العموم على كل بقعة منه وأيضًا فيا بني آدم عام وتقييد الأمر بما يستر العورة في الطّواف مفض إلى تخصيصه بمن يطوف بالبيت.
وقال أبو بكر الرازي في الآية دليل على فرض ستر العورة في الصلاة وهو قول أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والشافعي لقوله: {عند كل مسجد} علق الأمر بد فدل على أنه الستر للصلاة، وقال: مالك والليث: كشف العورة حرام ويوجبان الإعادة في الوقت استحبابًا إن صلّى مكشوفها، وقال الأبهري: هي فرض في الجملة وعلى الإنسان أن يسترها في الصلاة وغيرها وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم للمسور ابن مخرمة: «ارجع إلى قومك ولا تمشوا عراة»، أخرجه مسلم {وكلوا واشربوا}، قال الكلبي: معناه كلوا من اللحم والدّسم واشربوا من الألبان وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام، وقال السدّي: كلوا من البحيرة وأخواتها والظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل أو يشرب مما يحظر أكله وشربه في الشريعة وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدّسم أيام إحرامهم أو بني عامر دون سائر العرب من ذلك وقول المسلمين بذلك والنهي عن الإسراف يدلّ على التحريم لقوله: {إنه لا يحب المسرفين}.
قال ابن عباس: الإسراف الخروج عن حد الاستواء، وقال أيضًا {لا تسرفوا} في تحريم ما أحل لكم، وقال أيضًا: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، وقال ابن زيد: الإسراف أكل الحرام، وقال الزجاج الإسراف الأكل من الحلال فوق الحاجة، وقال مقاتل: الإسراف الإشراك، وقيل: الإسراف مخالفة أمر الله في طوافهم عراة يصفقون ويصفرون، وقال ابن عباس أيضًا: ليس في الحلال سرف إنما السّرف في ارتكاب المعاصي، قال ابن عطية: يريد في الحلال القصد واللفظة تقتضي النهي عن السّرف مطلقًا فيمن تلبس بفعل حرام فتأوّل تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضًا من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثال ذلك أن يفرط في شراء ثياب أو نحوها ويستنفد في ذلك حلّ ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك أو نحوه فالله عزّ وجل لا يحبّ شيئًا من هذا وقد نهت الشريعة عنه انتهى، وحكى المفسّرون هنا أن نصرانيًا طبيبًا للرشيد أنكر أن يكون في القرآن أو في حديث الرسول شيء من الطبّ فأجيب بقوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} بقوله «المعدة بيت الداء والحميّة رأس كل دواء» و«أعطِ كلّ بدن ما عودته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبًّا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا بنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي ثيابَكم لمواراة عورتِكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} أي طوافٍ أو صلاةٍ، ومن السنة أن يأخذ الرجلُ أحسنَ هيئتِه للصلاة وفيه دليل على وجوب سترِ العورة في الصلاة {وَكُلُواْ واشربوا} مما طاب لكم. روي أن بني عامرٍ كانوا في أيام حجِّهم لا يأكلون الطعام إلا قوتًا ولا يأكلون دسمًا يعظِّمون بذلك حجهم فهمّ المسلمون بمثله فنزلت {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتحريم الحلالِ أو بالتعدّي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعامِ والشّرَه عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كُلْ ما شئت والبَسْ ما شئت ما أخطأتْك خصلتانِ: سَرَفٌ ومَخِيلة. وقال علي بن الحسين بن واقد: جمع الله الطبَّ في نصف آية فقال: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} أي لا يرتضي فعلَهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا بنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ} أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورًا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} فأحب أن ألبس أجمل ثيابي، ولا يخفى أن الأمر حينئذٍ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب، وقيل: إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل تمشطوا عند كل صلاة، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر.
ومثل ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا زينة الصلاة قالوا: وما زينة الصلاة؟.
قال: البسوا نعالكم فصلوا فيها»
.
وأخرج ابن عساكر وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله سبحانه: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} إلخ «صلوا في نعالكم».
{وَكُلُواْ واشربوا} مما طاب لكم.
قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا ولا يأكلون دسمًا في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية، ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
وقيل: المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين، فقد أخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت» وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت: «رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف».
وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلًا من غير داع إليه سوى الشهوة، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضًا، وروي ذلك عن عكرمة، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة.
ورواه البخاري عنه تعليقًا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل:
نصحته نصيحة ** قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبسن ** ما تشتهيه الناس

فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه.
وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له: قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال: وما هي؟ قال: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة قال: وما هي؟ قال: قوله صلى الله عليه وسلم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًا انتهى.
وما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الإحياء مرفوعًا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسد ما اعتاد».
وتعقبه العراقي قائلًا: لم أجد له أصلًا.
وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعًا أيضًا: «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالسقم» وتعقبه الدارقطني قائلًا: لا نعرف هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبحر.
وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد» ولم أر من تعقبه، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير: سئل عمرو الحرث بن كلدة ما الدواء؟ قال: الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض. نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.
{إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم.
والجملة في موضع التعليل للنهي، وقد جمعت هذه الآية كما قيل أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر. اهـ.